الاقتصاد الإسلامي بين جناحي التوازن!


الناظر في الاقتصاد الإسلامي بفروعه المختلفة يجد سِمةَ عليا تتميز على كل السمات، وخصيصة كبرى تَظلُّ كل الخصائص، وهي «التوازن»، والتوازن عملية دقيقة ووَسَطٌ بين طرفين يبدوان في ظاهرهما التناقض، ومن أمثلة هذا التوازن ما يلي.

التوازن بين النقود والسلع

اتخذت الفلسفة الغربية النقودَ غايةً في اقتصاداتها الرأسمالية، فيرى جورج زيمل في كتابه «فلسفة النقود» أنَّ النقود لم تعُد وسيلةً وإنما صارَت غايةً في ذاتها، وهي قيمة تمكّن من الحصول على كل الإمكانات، في حين أنّ النظرة الاقتصادية الإسلامية للنقود مختلفة، وبدون الإخلال من قيمتها التي «تمكن من الحصول على كل الإمكانات»! فالنقد يظلُّ وسيلة وليس غاية، مربوط بتداول السلع والمنتجات الحقيقية، ومحظور الاتجار به «كسلعة» تولد ربحًا.


التوازن بين الادخار والاستهلاك

الادخار هو الفائض بعد الاستهلاك، وهو أداة مهمة للتحوُّط وإدارة مخاطر الحياة المالية، يعتبره البعض محركًا للاستثمار، بخلاف الكَنْز وتكديس المال، الذي يُعطل حركة دورانه، ويمنع الإنفاق منه على وجهه. 

والاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي محكومٌ بضوابط رشيدة، لعل أهمها مراعاة سُلَّم الأولويات؛ فالإنفاق على الضروريات يأتي قبل الحاجيات والتحسينات، والتوازن في الاستهلاك يحمي الفرد والمجتمع من الانحراف إلى أحد طرفين غير مرغوبين من إسرافٍ أو بُخل؛ يقول تعالى:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾()، وكلا الأمران نتيجتهما غير محمودة يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾.



التوازن بين الوجدان والسلوك

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾()، هذه الآية الكريمة تُلخص أحد أهم قوانين التوازن على الإطلاق، وهو التوزان بين الوجدان والسلوك، الذي هو بوصلة الاقتصاد الإسلامي بضبط سلوكيات البشر، مع صلاح بواطنهم وحسن مراقبتهم لأنفسهم؛ لأنّ «غير باغ» أمر متعلق بالإرادة: يبغي أمرًا أي يريده، والإرادة والعزم محلهما الوجدان والقلب، ولا رقيبَ على قلبك إلا تقواك، فلا معيار ظاهر ولا ضابط حاكم لهذا الأمر إلا نفسك! فيصعب قياس «الإرادة» بمعايير قياس الأداء KPI`s، أما الأمر الآخر «ولا عاد» فهو أمر سلوكي ظاهري، ومعناه ألا يتعدى في الأكل الحد المسموح له بالبقاء، وهذا السلوك -وغيره- قد ينضبط بمعايير معينة.

هذه الآية الكريمة تؤكد لنا أنّ للاقتصاد الإسلامي جناحان، داخليّ وهو «الوجدان»، وكنتيجةٍ له «السلوك» الظاهري؛ فإذا أردت تغيير سلوكٍ ما، فما عليك سوى تغيير جذوره في النفس أولًا، بهذين الجناحين يُحلق الاقتصاد الإسلامي، بل الدين كله، ولا يُحلّق إلا بهما، أرأيت طائرًا يحلق بجناح واحد؟!



التوازن المنشود في المعايير والمواصفات:

من خلال العرض الموجز لنماذج من التوازنات في الاقتصاد الإسلامي، نشدّد على أهمية التوازن في المعايير الشرعية للمالية الإسلامية خاصة «معايير AAOIFI»، أو مواصفات الحلال وخاصة مواصفات SMIIC و GSO، ونعني هنا التوازن في اعتبار جناحي الاقتصاد الإسلامي وهما «الوجدان والسلوك» أو «الغائية والإنتاجية» أو «المقاصد والإجراءات»، فأي معيار يركز على الإجراء دون الإشارة حتى إلى مقاصد هذا الإجراء فإنّ به خلل لمفهوم تكامل الاقتصاد الإسلامي وتوازنه.

ومن المهم كذلك مراعاة الترتيب؛ فالوجدان قبل السلوك، والغاية قبل الوسيلة، والمقصد قبل الإجراء؛ يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾()، واليقين «وسيلة» فكرية يُتوصل بها إلى «الغاية» العملية وهي الصبر، ومع أنه لا يُتوصل للغاية إلا بالوسيلة، إلا أنه سبحانه قدم –هنا- الغاية على الوسيلة، فالغايات مستدامة، والوسائل مرنة.

نريد أن نرى انعكاسًا لجناحي الاقتصاد الإسلامي في حياتنا، كما نريده في تقاريرنا وإحصاءاتنا ومعاييرنا ومواصفاتنا؛ ترصد السلوك، مع الإشارة إلى أخلاقياته ومقاصده، وهذا الجانب –حقيقة- هو ما يميزنا.

Courses